قصة قصيرة- قضية

 


قصة قصيرة- قضية

المكان مليئ حولي بأصوات أصدقائي، حيث لا أجد وقتاً للفتور، من بينهم جميعاً لدي أصدق صديقٍ قابلته على الإطلاق لؤي.

نحن نقضي الوقت نقرأ روايات خيالية ونمثل الأدوار ونطبق النصوص بكل شاعرية وروعة؛ فمرة هو فارس مقدام وأنا عدو ضارٍ قادم ليهدم قلعته، ومرة أكون مزارعاً كهلاً يفلح حقله وهو سارق ماكر لا يمكن الإمساك به، ومرة نجلس على طاولة كازينو فاخرة متظاهرين بأننا رجال عصابة.

يطول الوقت بينما نتحدث عن أمالنا وطموحاتنا وماذا لو امتلكنا مليوناً في يوم وليلة، أذكر أن حلمه كان أن يصير مهندساً كيميائيا؛ فهو يعشق رائحة الأبخرة ويحب مزج المواد ليفاجأ بماذا يحصل أو يأخذه الانبهار عندما يحصل على مركب جديد.

بالنسبة لي أحب قضاء الوقت برفقته أو قضاءه مع ليث ورائد، حيث نحب الجري في الصباح، وتناول إفطارٍ بسيط على مشارف حديقة حيث تفتتحها سيدة مسنة تبيع شطائر طازجة وعصائر باردة؛ تذوقها بعد جري متعب يعد رفاهية بالنسبة إلينا.

عندما أعود إلى المنزل بعد يومٍ شاق، أجد عائلتي تجتمع على طاولة الغداء، الجميع يرمقني بنظرة ازدراء بينما أبي لا يتوانى عن إظهار نظرات الحسرة على إنجابي، تحاول أمي الضغط على نفسها كي تدعوني إلى هذه المائدة السامة  ولكني أسحب نفسي متظاهراً بأني لم أسمع، بينما يتهامس إخوتي الأربعة ذمّاً وتحقيراً لطريقة لباسي أو مشيي الذي يصفونهما بالمريبة.

أصعد إلى غرفتي حيث يلتفني الإيمان بأني شخص رائع ويستحق الحصول على أحلامه بل وقادر على مطاردتها، إنها غرفة تقاس بأربعة أمتار في ستة ولكنها عالم كبير وفسيح بالنسبة لي، أراجع دروس الجامعة، من ثم أنغمس في رسم المانجا-القصص المصورة- خاصتي حيث أصب كل أنتباهي وحبي للأبطال الذين ارتحلوا في العوالم الثمانية التي أوجدتها، أبث فيهم أجزاءً من روحي.

١٢أغسطس ٢٠١٧

كان لدينا رحلة ميدانية كنشاط ثانوي في الجامعة وبصراحة أردت بشدة أن أجرب التسلق برفقة لؤي ورائد وليث؛ لذا قررنا سويا الالتحاق وتسجيل أسماءنا وفراشات صغيرة تدغدغ معدتي من فرط الحماسة.

في ذلك اليوم حملنا حقائبنا المحملة بالمقرمشات والحلويات وعدة التسلق، إنها كل ما يهم لؤي والذي بقي طيلة الليل يذكرنا بألا ننساها ولا نقتصد في شراءها.

كان رائد قلقا بشأن الطريق؛ لذا تكفل بقراءة الخريطة ومتابعة سيرنا مع المجموعة كي لا نتوه.

أما ليث أطلق قدميه ركضاً وتسلقاً وقفزا في المكان وهو ينسجم مع نفحات الهواء الرقيقة على وجهه، غير متردد في القفز على الطين ونثره على بقيتنا، ومتابعة الركض وهو يمد يديه ليصافح الأغصان المتدلية.

إن منظرهم يشرح خاطري، ولا يترك مسافة بيني وبين الضحك الذي التصق بابتسامتي طيلة الرحلة، كنت أرمي بعض النكات على رائد الذي وضعنا ثقتنا فيه ونحن لا نعلم أصلا ما إن كان يعرف كيف يقرأ الخريطة أم لا، ثم أتركه لأتسابق مع ليث الذي سيهزمني حتماً ولكنني لا أملّ من استفزازه.

تابعنا خطوات الصعود مع بقية الطلاب والذين ساروا في مجموعات هم أيضاً، كان المرشد يتوقف من حين لآخر ليتفقدنا ويقدم نصائحه بسخاء على الجميع، رجلٌ أشيب الشعر مجعد الوجه، تُظهر ملامحه لطفاً وحكمة تراكمت على كتفيه المشدودين، يرتدي نظارات دائرية كبيرة قد انقلبت سوداء بمجرد أن خرجنا تحت الشمس.

عندما وصلنا إلى القمة ولاح المنظر المدهش للغروب من أعلاها بينما تقطّعت أنفاسنا عبرت إلى الوجود الابتسامات الصاخبة، واستنشقنا صعداء الطبيعة الساحر ليزيح عنا مشقة الوصول، كانت السماء ممتدة على مصراعيها أمامنا وهي تنبئ أفئدتنا الصغيرة بأن العالم برحابته قد بسط أذرع المغامرة لنا.

بعد استراحة دامت ١٠د تأكد المرشد من أعدادنا واسمائنا ونظم اجتماعنا ليقود الطريق نحو الأسفل، كان الظلام قد حل ولكن أضواء الفوانيس المزودة ببطاريات كانت تنير الطريق حولنا وأمامنا وكأننا نزين ظلام الغابة الجبلية.

توقفنا لاستراحة ١٠د أخرى، في تلك الاثناء كنا مجتمعين لنراجع الصور التي التقطتها في الكاميرا الصغيرة الخاصة بنا، في تلك الأثناء، حدقت لبرهة في حشائش تتوسد كبد الغابة المظلم بعد أن سمعت صوتاً ينادي ليث من بينها.

تملكنا روع مؤقت ولكن ليث اندفع نحو الغابة يجري مستجيباً للصوت في حين حاولت الإمساك به ولكنه انساب من بين يدي وهو يقول
"دعونا نرى ماذا يكون"

بينما أجبناه على الفور ملئ أصواتنا
"توقف الظلام دامس"

اندفع لؤي خلفه حيث قال وأنفاسه بدأت مضربة
"لن أتر كه بمفرده، اسبقوني"

عندها حملنا بقية الحقائب ولحقنا به ولكن بتباطئ كبير ورهبة أكبر، كنا نناديهم من الخلف بينما تأخر رائد عني ليبلغ المرشد بأن ينتظرنا قليلاً من ثم لحق بي.

سرنا نتبع الأضواء التي باتت صغيرة إثر ابتعادهما عنا، تابعنا ننادي عليهما بلا فائدة وكأن الغابة ابتلعتهما.

فجأة من بين الصمت المدقع والذي تسيده صوت حفيف الأوراق التي ضربتها الرياح بقوة لتطرد الدخلاء الذين اقتحموا سكينتها، أنطلق صوت صراخ مرتفع شلّ حركتي بينما تخبّط رائد وهام هارباً وقد ألقى بالحقائب ورد الصرخة بأخرى مختلطة بالدموع لم استطع فعل شيء من أجله ولكني بت أناديه وصوتي عالق في حنجرتي وقد أسقط الفانوسين وتدحرجا إلى نهاية الوادي وتلاشى ضوءهما بعد أن اصطدما بالجرف.

ارتفعت نبضاتي حتى شعرت أن قلبي محشور في حلقي، قدماي ترتجفان ولا أستطيع تحريكهما، ومهما صرخت وناديت لا يكاد صوتي يغادر محيط كتفي، جسدي يرتعش والرياح قوية، عندها التفت إلى الخلف كي استنير بضوء المجموعة التي صعدنا معها ولكن الضوء ابتعد كثيراً وكأنه قارب صغير ارتحل في رحاب البحر، لا يمكنني تتبعهم إنهم بعيدون جداً وتكاد تلك السرج الضئيلة تختفي من أمامي.

انسابت دموعي حارة على خدي الذي جففه الهواء، وقد تساقطت عزائمي تجرُّني نحو الأرض، أدخلت يدي في جيبي أبحث عن هاتفي فلم أجده، والكاميرا لا أعلم أين هي، عندها سمعت وثبات قوية من خلفي، وقد بت لا أدري خلفي من أمامي، ولكني أسقطت كل شيء كان بحوزتي وحركت أقدامي عبثاً وركضت ركضاً جنونياً ولم أشعر بالاغصان وهي تخدش جسدي، والاحجار التي هشمت أصابع قدمي.

هل انتهت قصتي وأنا لم أُفصح عن اسمي بعد؟

١٩ أغسطس ٢٠١٧

أعلنت الشرطة عن العثور عن جثة شخص مريبة في الجبال، وقد تأكدوا من أنه شوهد آخر مرة في رحلة جامعية نحو تسلق جبل التوبقال قبل أسبوعٍ مضى، وأفادت التحقيقات أنهم لم يتمكنوا من تحديد هويته بسرعة إذ أصرّ الشهود مرة أن أسمه رائد وأقر أخرون أن أسمه ليث وأقسم آخر الذين شاهدوه ينفصل عن المجموعة أن اسمه لؤي، وبعد التأكد من بصماته كان أسمه رشيد.


لمتابعة القصة ومعرفة تفاصيل الجثة اطلع على النص الأصلي هنا


صالحة الالمعي
بواسطة : صالحة الالمعي
أقدم نفسي إلى القراء الأعزاء ككاتبة طموحة، قد شغفها القلم حُبًّا بدأت مشوار الكتابة منذ الصغر وخطوت خطوة جدية في عمر مبكر بدأت منذ 2016 مشواري، وكلي يقينٌ أني سأنشر يومًا ما كتابًا يكون صديقًا للقراء كافة. أترك هذه المدونة بين أيديكم على أمل أن تأخذ بها نحو مساعيكم الأدبية، أريد من كل قلبي أن ترتقي نصوصكم إلى توقعاتكم، ولكي يتألق الكاتب عليه أن يستوعب المعرفة ويمارسها؛ فتقرأ كلماته بعذوبة لا يكاد يطيق القارئ أن يرفع عينيه عنها، نص يشد أخر صفحة تسحب الأخرى حتى يتلقف بيديه كتابًا تلوى كتاب.
تعليقات