إسطنبول تودع شيخ الخطاطين حسن جبلي الذي كرس حياته لكتابة القرآن الكريم
في السابع من مايو 2023، فقدت إسطنبول والعالم العربي شخصية بارزة من شخصيات الفن الإسلامي التقليدي، وهو الخطاط التركي الكبير حسن جبلي، الذي وافته المنية عن عمر يناهز 93 عامًا. كان حسن جبلي ليس فقط أحد أعظم الخطاطين في تركيا، بل أيضًا رمزًا حيًا للفن الإسلامي الذي تربى على تقاليده وكرس حياته لخدمة هذا الفن الأصيل. ولعل أبرز ما يشتهر به هذا الفنان الراحل هو إسهاماته العميقة في كتابة القرآن الكريم بخطوطه الجميلة التي تجسد التقاليد الفنية للخط العربي بشكل غير مسبوق.
كانت وفاته بمثابة فقدان لعصر من الإبداع الفني في تركيا والعالم العربي، حيث ترك إرثًا فنيًا وفكريًا عميقًا سيظل حياً في ذاكرة الأجيال القادمة. كانت إسطنبول، هذه المدينة التي نشأ فيها وعاش فيها معظم حياته، شاهدًا على رحلته الطويلة مع الخط العربي، والتي كانت مليئة بالتفاني والإنجازات الكبيرة. في هذا المقال، سنتناول حياة الفنان حسن جبلي، دور هذا الخطاط الكبير في نقل فنون الخط العربي التقليدي، خصوصًا كتابة القرآن الكريم، وكذلك تأثيره على الأجيال الشابة والفنانين المعاصرين.
نشأة حسن جبلي: البداية من إسطنبول
وُلد حسن جبلي في إسطنبول عام 1930 في أسرة بسيطة، إلا أن مناخ المدينة الثقافي الغني كان له الأثر الكبير في تشكيل شخصيته الفنية. منذ صغره، كان حسن يراقب الخطاطين في المساجد والمدارس الإسلامية، وقد كانت المساجد في إسطنبول تزخر بزخارف خطية مدهشة للآيات القرآنية، مما زاد من شغفه بفن الخط العربي.
مع مرور الوقت، أصبح حسن مهتمًا بشكل خاص بالفن الذي يمزج بين الكتابة والجمال، أي الخط العربي. كانت الحروف العربية بالنسبة له أكثر من مجرد رموز للغة؛ بل كانت تجسيدًا للجمال والروحانية. بدأ حسن جبلي تعلم فنون الخط في سن مبكرة، وانضم إلى مدرسة الفنون الجميلة في إسطنبول، حيث درس تحت إشراف أبرز المعلمين في هذا المجال. وكان من بين أساتذته المعلم الكبير مصطفى ديميرجي، الذي كان له تأثير بالغ عليه، حيث أصبح جبلي أحد آخر طلابه الذين تعلّموا على يديه في بداية ستينيات القرن الماضي.
الخط العربي وكتابة القرآن الكريم
اشتهر حسن جبلي بكونه واحدًا من أبرع الخطاطين الذين كرّسوا حياتهم لكتابة القرآن الكريم. كانت الخطوط التي يستخدمها في كتابة المصاحف فريدة من نوعها، حيث كان يعكف على كتابة آيات القرآن الكريم بأسلوب تقليدي، يجسد الجمال الروحي والديني في كل حرف. يعتبر خط “النسخ” من أبرز الخطوط التي اتقنها، وقد استخدمه بكفاءة وابتكار ليضفي عليه طابعًا شخصيًا دون المساس بأصالة هذا الخط.
قد يكون ما يميز حسن جبلي عن غيره من الخطاطين هو تحليله العميق لروح النصوص القرآنية وتفسيره العاطفي والجمالي لها من خلال الحروف. لم تكن مجرد كتابة كلمات، بل كانت بالنسبة له عملية روحانية وفنية. كان يختار بعناية شديدة كل حرف، ويمنحه الوقت الكافي ليتناغم مع الشكل والمضمون، ليتجسد الفن في كل جزء من المصحف.
الإبداع والتجديد في كتابة القرآن الكريم
رغم احترامه التام للتقاليد، لم يكن حسن جبلي خاليًا من الإبداع والتجديد في أسلوبه. فقد سعى إلى إدخال العديد من التقنيات الحديثة إلى فن الخط العربي مع الحفاظ على تقاليد الكتابة التي تعود لقرون. كان يولي اهتمامًا خاصًا بالتناسب بين الحروف والتنسيق بين الكلمات، إضافة إلى خلق توازن بين المسافات والزخارف التي ترافق النص القرآني.
كان لدى جبلي القدرة على أن يجعل القرآن الكريم ليس مجرد نص ديني بل قطعة فنية تُعبّر عن الجمال الروحي والإبداع البشري. وفي هذا السياق، فقد عمل على عدد من المشاريع الضخمة التي تشمل كتابة عدة نسخ من المصحف الشريف، وبعضها كان قد طُبع في العديد من البلدان الإسلامية.
إلى جانب ذلك، كان حسن جبلي يتقن العديد من أساليب الخط العربي، مثل خط “الديواني” و”الثلث” و”الرقعة”، وكان له إسهامات كبيرة في تجديدها وتطوير أسلوب الكتابة بها، بما يتماشى مع الحاجة إلى تصميم يتسم بالجمال والدقة في المساجد والمراكز الثقافية.
حسن جبلي: معلمًا ومؤثرًا في الأجيال القادمة
إضافة إلى أعماله الفنية المذهلة، كان حسن جبلي معلمًا فذًا نقل هذا الفن العريق إلى الأجيال الجديدة. فقد أنشأ العديد من الورش التعليمية والجامعات التي تدرس الخط العربي في تركيا. كان يولي اهتمامًا كبيرًا بتعليم فنون الخط العربي للشباب والطلاب، ويؤمن بأن الإلمام بقواعد هذا الفن يمكن أن يعزز من الهوية الثقافية والتراثية للأفراد والمجتمعات.
ومن خلال دروسه وورش العمل التي قدمها، زرع حسن جبلي شغفًا عميقًا في نفوس الكثيرين تجاه الخط العربي. كما اهتم بتعليم الطلاب كيفية استخدام الخطوط العربية في التعبير الفني عن أنفسهم، وشرح لهم كيف يمكن للخط العربي أن يكون نافذة تعبير عن الإيمان والجمال الثقافي. أصبح العديد من طلابه اليوم من كبار الخطاطين الذين يواصلون درب معلمهم.
تكريم حسن جبلي
بعد سنوات طويلة من العطاء الفني والتعليم، كان لحسن جبلي العديد من التكريمات في تركيا والعالم العربي. كانت أعماله تتزين بها العديد من المساجد الكبرى في إسطنبول، وكان يُدعى إلى العديد من المعارض الدولية لعرض أعماله. كما نال تقديرًا كبيرًا من الحكومة التركية ومنظمات الفنون، فكان يُعتبر بمثابة “شيخ الخطاطين” في تركيا.
وكان التكريم الأكبر له هو تكريمه في العديد من المناسبات الثقافية، حيث شهدت إسطنبول العديد من المعارض الخاصة التي ضمت أعماله المميزة، مثل كتابة المصاحف الكريمة، واللوحات الفنية التي تزخر بالآيات القرآنية. وكان دائمًا ما يُشيد به كرمز للالتزام والتفاني في العمل.
وفاة حسن جبلي: إسطنبول تودع شيخ الخطاطين
وفاة حسن جبلي كانت بمثابة فقدان عظيم للفن الإسلامي، حيث كان يعتبر من آخر المعلمين الذين حافظوا على تقاليد فن الخط العربي. في مراسم وداعه، التي أقيمت في إسطنبول، كانت الأجواء مليئة بالحزن والاحترام، حيث حضرها العديد من الشخصيات الثقافية والفنية من مختلف أنحاء العالم.
أقيمت العديد من الاحتفالات والفعاليات التي عرضت أعماله في المعارض الكبرى، تكريمًا له ولإرثه الفني. وقد استعرضت هذه الفعاليات رحلة هذا الفنان الكبير من بداياته البسيطة في إسطنبول إلى أن أصبح أحد أبرز الخطاطين في العالم. كانت الأوساط الثقافية والفنية في تركيا والعالم العربي على موعد مع وداع مؤثر للفنان الذي أسهم في الحفاظ على التراث الفني العربي والإسلامي.
خاتمة: إرث حسن جبلي يظل حيًا
على الرغم من رحيل حسن جبلي، فإن إرثه الفني يظل حيًا في كل خط عربي، وفي كل زاوية من زوايا الثقافة التركية والإسلامية. يظل اسمه محفورًا في قلوب محبيه، وفي أعماله التي ستظل تُعرض في المساجد والمراكز الثقافية. لقد كرس حياته لفن لا يقدر بثمن، وحافظ على جوهره وتقاليده في عالم تتسارع فيه التغيرات.
إسطنبول تودع اليوم شيخ الخطاطين، ولكن أعماله ستظل تضيء سماء الفن العربي والإسلامي، وستظل الأمة تتذكره كأحد عظمائها الذين خدموا هذا الفن بروح مليئة بالإيمان والإبداع