تلون كل شيء أمامي فجأة، وشعرت بدوامة تقيد حركتي، وبأن جسدي يتحرر شيئًا فشيئًا، وروحي ترقى إلى السماء.
في مقاومة لنبهية الاستيقاظ حركت عيني؛ لتتدفق أشرطة الضوء إليهما، وما إن فتحتها محملقةً في سقف مألوف وغير مألوف في ذات الآن، بدأت أتلمّحُ من حولي لأرى شموعًا أرجوانية موقدة تملاء أرجاء غرفة نومي تبث حولي عبق رائحة التوت الأسود الساحرة، سحبت الهواء إلى داخلي في تلذذ به، وأخرجته في سعادة تلبستني، ولكن بصراحة لم تكن هذه الغرفة تشبه غرفة نومي إلا أنني في قرارة داخلية أعلم بأنها غرفتي، نظرت إلى جسدي فرأيتني مجردة الملابس وريش الملاية يدغدغ بشرتي، نهضت في انقياد وسرت نحو حمام الغرفة وبدأت بالاستحمام، وعند انتهائي، خرجت وأنا ألف جسدي بمنشفة وأتجول في غرفتي، نظرت في لهفة إلى التقويم المعلّق على الجدار إلى جانب النافذة، حيث كنت أتأكد من علامة وضعتها على تاريخ اليوم، ولكن بينما كنت أتحقق منها شعرت بخيبة أمل وهرعت إلى هاتفي أتفقد سجل مكالماتي فتذبل رمشات عيني بغته، ويخفق قلبي بأجراس القلق، وأخذت استرجع ذاكرتي الصدأة، وأستذكرت أني كنت في ترقّبٍ لدخوله وأنا أعيد النظر إلى ساعة الجدار، ولكنه تأخر؛ فغفوت بينما كنت أنتظره، نعم تذكرت ذلك، من ثم أخرجت صوتي وأنا أقول
" ثم إن موعد وصوله اليوم الثاني عشر من ديسمبر، أنا متأكدة ماذا حدث؟"
فتحت صندوق رسائلي ولم أجد أي ملاحظة تبرر تأخره، من ثم هممت بالإتصال ولكنه لا يجيب، نظرت من نافذة غرفتي بعينين تتوسلان ربّ الأقدار، ووزعت نظري على امتداد الأفق المظلم الذي يظهر أمامي، ومررت عيناي بروعٍ طفيف حطّ بجناحيه على قلبي، على الأضواء المبعثرة في المدينة أناجيها.
-خلال أسبوع-
هرعت في صباح اليوم التالي إلى المطار، وسألت عن موعد وصول الرحلة وما إن حدث شيء للركاب أو أنها تأخرت بسبب ما، ولكن المفاجأة التي كادت تغشي علي أن ردت علي الموظفة في ضحكة خرجت تلقائيةً من شفتيها
" لا توجد رحلة بهذا الرقم سيدتي"
تماسكت قليلًا وطلبت منها إعادة البحث يبدو بأنها مخطأة، وكمجاراة لي بما أنني زبونة قامت بالبحث، من ثم هزت رأسها في نفي وحركت الشاشة لأنظر وقالت مشدقةً فمها وجزءً من خدها
" كما أخبرتك لا توجد رحلة اليوم بهذا الرقم، وإنما هي رحلة منذ عام وهذه تفاصيلها"
عندها تذكرت بأنها رحلة ذهاب كونزالس قبل عام إنها ذات الأرقام كيف لم أنتبه، ولكن ماذا يحدث؟ لم أستطع الرد عليها؛ فحلقي قد جف تماما، فناولتني قارورة ماء لأشرب وخرجت من مكانها وأحضرت لي كرسيًا، شعرت بأني فقدت ثروةً طائلة ونصف حياتي معها، وأحاطتني أسوار العجز وفتكت بي قيوده، ولكني أسكتُّ عقلي الوجل وقلت
" مهلًا! مازال هناك حلٌ آخر"
وجمعت شتاتي الذي بدا للموظفة وقدت سيارتي بسرعة نيزك يريد ثلم الأرض وتفتيتها نحو السفارة؛ حيث إن كونزالس كان مسافرًا إلى دولة أجنبية، وعند وصولي قفزت إلى وجه الموظف وشرحت له القصة بنبرة صوتٍِ عزفت ألحانها موسيقى الحزن، ورقصت عليها أشجاني؛ فتعاطف معي فورًا وبدأ بتقليب السجلات ومراجعة تواريخ الرحلات ونشر البلاغات وطلب مني أن أمهله ثلاثة أيام ليرد لي الخبر، وقد لمست في كلامه شفقته التي ربت بها على قلبي، خصوصًا عندما علم أنه سافر بعد زفافنا بيومين قبل عام، وأنه أرسل لي رقم رحلته الخطأ بالرغم من أنه كان يحادثني قبل أن يغلق هاتفه.
عدت له بعد ثلاثة أيامٍ كما أخبرني، ووجهي يحمل ثمالة الحزن، وعينان تعاطيتا السهر، وبمجرد أن وقفت أمامه أسأله عن الخبر، ظهرت تعابير المواساة عليه، وسال جبينه بحثًا عن باقة ينمق بها الخبر الصادم وقال
"عذرًا سيدتي ولكن السيد كونزالس، لم يسافر إلى البلد التي ذكرتيها.. ولكن لا تقلقي سنواصل البحث عنه وسأبلغك فورًا بالمستجدات في أقرب فرصة، ولكن زوديني ببعض التفا..."
لم يكمل كلامه إلا وتمددت على الأرض في تيه عن العالم، وبعد أن تجمهر الناس ونفثوا على وجهي الماء وتكهنوا بعلّتي، استيقظت مجددًا وظهر أمامي ذلك الموظف حيث قال
"زوديني بنص رسالته رجاءًا التي بعثها لك"
لم أسأله عن السبب وناولته هاتفي في تسليمٍ واستسلام، من ثم أعاده لي دون أن يبنس ببنت كلمة، وطلب لي سيارة أجرة ودفع حسابها وعدت إلى البيت.
انقضى ذلك الأسبوع، وتلى الأسبوع أسبوع، حتى بنت سلسلة الأسابيع شهورًا، وأتممت سلسلةً إثنا عشرية من الأشهر زوجةً للحزن، أصحوا معه وأنام على همهمات بكائي، وأقلّب خاتمي بين أصابعي وكأني أتأمل نجمةً براقةً في السماء، هجرت الدنيا بكل أشكال حياتها، وأقمت طقوس الأسى في بيتي، أنسج حكايات ذكراه وأتلوها على قلبي كلّ يوم؛ فكونزالس كان صديق طفولتي وعشيق مراهقتي، ورفيق عشرينياتي وزوج ثلاثينياتي، كان اخًا لأحزاني، وأبًا لضعفي، وصديق مشكلاتي، وأمًا لهمومي، وأختًا لطيشي، كان كل شيء، بل إن حياتي دونه لا شيء.
وبعد عامٍ في ميتم الهجران، حيث ظهرت علي معالم النحالة، ونهْش الأوجاع في كل أضلاع جسدي، وشابت مقلتاي، ونُحتت عظام وجنتي، خرجت في يومٍ وقد تلويت بنار الحنين، أهيم بحثًا عن قدح النسيان، وقادتني أقدامي إلى بارٍ مشهور في مدينتي، حيث اتخذت منه كنيسة الخلاص التي أصلي بها طلبًا للنجاة من حاصد القلوب، وعندما ارتميت على الكرسي وتوسد خدي المنضدة، وأشرت باصبع متهالك قائلة
"فودكا من فضلك"
وسرحت بعيني في الموجودين، بأملٍ قديم، وجرح عقيم، لأشهق شهقة شخص غشيه الموت، وفاضت عيناي بالدموع التي ابتهل بها أرقًا كل ليلة، عندما احتضنت بعيناي فقيدي، وقبلت وجنتاه بمخيلتي، كان جالسًا على إحدى الكراسي في حلته البهية، وسترته المخملية، يتخطف نظره إلى الساعة في انتظار، وعندما قفزت بلا إرادة لأعانقه، فوجئت بفتاة عشرينية متمايله في أنوثة، مبرزة ثدييها وكشفت أجزاءًا من فخذيها، وفي كامل زينتها، تضع يديها على عينيه فيبتسم دون شعور ويقبل يديها ويقف ملتفًا على جسدها في مشهدٍ حميم، فتلبدت عيناي ووقفت أمامه غائبةً عن نفسي التي رحلت معه، ومازال مطبقًا قبضته عليها في غير رحمة.
اقتربت من طاولتهما وتابعت مشاهد المغازلة وشعائر الملاطفة، في حديد مذاب من الغبن الذي ينساب على قلبي، وزقومٍ أتجرعه عبر حلقي، وعندما هممت بالخروج وسرت من جانب طاولتهما توقفت في غير إرادتي وشخصت بنظري المتردد بينهما، وما كان منهما إلا أن صمتا وبادلاني النظر فباغته بالقول
"مرحبًا" في زمجرة
لينطلق صوته الذي قتل أخر إحساس فيني وقال
"عذرًا أمن خطب؟"
ولكني لم أرد، فقال متسائلًا
" أتريدين شيئًا؟ أو ابتعدي عن هنا"
وهمهم لها
" يبدو بأنها سكيرة، لنكتفي بتجاهلها"
وما كان سكري إلا فقدًا أدمنته؛ فحتى الفودكا لم أشربها، صمت وتحركت في غير وعي ودخلت إلى بيتي وصعدت أعلاه حيث رأيت مدينتي الخلابة في غاية الروعة، لقد كانت آية في الجمال، وأطلقت تنهيدةً أودع بها الحياة، وقفزت مواجهةً احتكاك الهواء وقبل الاصطدام شعرت بدوامة تبتلعني وتكرر ما حدث قبلًا حيث تقيدت حركتي وعزلت فجأة عن كل شيء.
وبعدها فتحت عيني وأنا ممدة على فراش عادي وضوء نافذة صغيرة سطع على وجهي، وعندما نظرت إلى يدي وجدت عليها وشومًا رسمت بالحبر الأسود والأخضر، فهرعت بالجلوس في تساؤل وأنا أرى جسدي مليءً بهذه النقوش الغريبة، من ثم ظهرت لي امرأة أربعينية بعين زرقاء وأخرى سوداء وهي تتلثم برداء أسود، حيث قالت لي
"كيف كان المستقبل؟ أتمنى بأن أكون قد ساعدتك في اختيارك، وبأنك شاهدتي بأم عينيك ما سيحل بك مع كونزالس"
فتذكرت كلّ شيء عندما قدمت أسأل هذه المشعوذة ما إن علي قبول طلب كونزالس بالزواج أم لا، فأخبرتني بأني أنا من ستختار، لذا علي معرفة ما سيحدث من وراء هذا الاختيار بنفسي، وأقامت ضريحها هذا حيث أرقد وتمتمت فوق رأسي وأرسلت روحي؛ لتستشرف المستقبل.
وبعد أن رأيت حياتي مع كونزالس كيف ستبدو، رفضت عرض زواجه وعزفت عن الزواج إلى الأبد؛ فهذا شكل حياتي المستقبلي بين جناحي الزواج.