كبرياء





اثنان حملت الأرض بين جنباتها قلبيهما، حتى أنها لشدة حبهما لبعضهما أحبتهما، وتركت الأيام تحكي للناس قصتهما؛ لأن تلك المشاعر كانت جديرة بالتقدير بالرغم من أن ذلك لم يكن كافيًا أمام القدر؛ لتتفكك أواصر الوصال بينهما وتتبعثر بعد أن دامت عقدًا من الدهر.


ولكن في لحظات غير محسوبة بعد ٤٨ عامًا.


يسيران في أروقة المستشفى بملابس أنيقة ولكن في التصميم عتيقة، وسرعة قدميهما قد تناقصت حتى باتت خطواتٍ قصيرة، ولعظامهما صرير واحتكاك، قادتهما تلك الممرات في مجرى صدفة لتلاقي وجهًا لوجه..

لتتمازج نظارت عينيهما الفضية وتفترقان في لحظة من عدم انتباه، ثم تعودان سريعًا للتمعن؛ فتتغير  مؤشرات حركة قلبيهما إلى وقعٍ قديم مضطربٍ منتظم، وقد أُذهلت مشاعرهما كليًا، ينظران إلى بعضهما ويعدّان السنوات التي مضت

كيف أنها مرت على مضض ولكنها وبشكل مختلف كانت سريعة، أعرضا واستدارا  فكلهما كبرياء جامح، والذي كان السبب في الهجران؛ فهو إتحاد كبرياءٍ أدى إلى تنافر، إلا أنه سمع صوت حذائها المرتفع قليلًا وهي تسرع الخطى باتجاهه وتتوقف، من ثم جلست بدورها باستقامة ظهرها على كرسي للإنتظار في ذلك الممر وقالت بصوتها العذب الرقيق والذي لايمكن لأذنيه أن تنكرانه أو تتجاهلانه، وهي تداعب خصلها الفضية 

" لن أمارس كبريائي على مجرد صدفة!"


ليجد الطريق هو أيضًا ويستدير في لهفة ويسارع في الجلوس بانحناء بطيء ثم يقول بعد تنهد

" معك حق"


ويعم صمتٌ مليء بالحديث، صمتٌ بليغ بكل ما تعنيه البلاغة دون أن ينظر أحدهما للآخر.


من ثم يتردد أن يقول فتسابقه حركة يديه كما  اعتاد التحدث بهما؛ فتحول عيناها وانتباهها واهتمامها إليه خلف ابتسامة متوازنة؛ لتدفعه أن ينطق؛ فيقول " كنت دائمًا أنتظر... أنتظر أن ترسلي أي شيء"


فتضحك ضحكة زائفة الذهول وتقول مندفعة

" أوه حقًا؟.. أنا أيضًا كنت.. أنتظر"


ويعم الصمت مرة أخرى، لقاءٌ مفاجئ لا يسع للحظاته أن تبرهن لأين منهما كم كان الابتعاد شاقًا.


يزم شفتيه بابتسامة خجولة فتنتبه إليه ويبتسم ثغرها أن حان دورها لتنازل؛ فتقول

" دعني أُخمّن... أممم هل تريد أن تسأل ما إن نسيتك أو لم تخطر لي في أي وقت؟"


فيهزّ رأسه مبتسمًا أي نعم وقد ظن أنها تغيرت لتقول من فورها تجابه جموح قلبها 

" نعم لقد فكرت بك في العديد أو لنقل في الكثير من المرات.."


ثم تنظر إلى حدقته مباشرة وتكمل 

"وكذلك أنت، أليس كذلك؟"


فتحمر وجنتاه ويهز رأسه أي نعم مرة أخرى، ثم سرحا لبعض الثواني يفكران في كم ضاع منهما من سنوات كان الشعور فيها متدفقًا لولا الخصام، وقد تسيد الصمت أغلب الوقت، وكلٌ منهما محمّلٌ بالكثير من الأسئلة والأجابات، ولكن قبل أن يهم بلين جانبه، نظرت إلى ساعتها ونهضت على الفور وحوّلت ناظريها التواقين إليه وبابتسامٍ مهذّب قالت

" لقد تأخرت علي الذهاب... من روائع الحياة أن قابلتك اليوم لم أعتقد أن هبة كهذه قد تحدث"


ليقول مباشرةً وقد ضحك أمامها دون أن يتمعن قصدها على نفسه أن ظنها تغيرت 

" معك حق، أنا سعيد أيضًا، كان لدي المزيد من الوقت إني أنتظر تحليلاتي الدورية أن تخرج، ومقابلتك كانت الأفضل لقضاء وقت الإنتظار المزعج"


فتضحك من قوله وهي تجزم لنفسها أنه لم يتغير، لا ينتبه للتفاصيل كما تفعل، ولا يدرك مغازي كلامها كما اعتاد أن يفعل، متماسك متهالك، 

ثم أشارت إليه مودعة وهي تستدير وتثب خطواتها في قلبه، بينما كانت تشكر الحياة في أعماقها قائلة

" شكرًا لم أعتقد أن صلواتي أستجيبت، شكرًا شكرًا"


من ثم سالت مدامعها بماءٍ دافئ وغادرت باب المشفى بعد أن قضت به عامين ونصف العام؛ لتعيش آخر ثلاثة أشهرٍ تملكها.


بينما يقول العجوز في ضحكٍ متألمٍ ساخر

"لقد آثرنا الكبرياء مرة أخرى!"


صالحة الالمعي
بواسطة : صالحة الالمعي
أقدم نفسي إلى القراء الأعزاء ككاتبة طموحة، قد شغفها القلم حُبًّا بدأت مشوار الكتابة منذ الصغر وخطوت خطوة جدية في عمر مبكر بدأت منذ 2016 مشواري، وكلي يقينٌ أني سأنشر يومًا ما كتابًا يكون صديقًا للقراء كافة. أترك هذه المدونة بين أيديكم على أمل أن تأخذ بها نحو مساعيكم الأدبية، أريد من كل قلبي أن ترتقي نصوصكم إلى توقعاتكم، ولكي يتألق الكاتب عليه أن يستوعب المعرفة ويمارسها؛ فتقرأ كلماته بعذوبة لا يكاد يطيق القارئ أن يرفع عينيه عنها، نص يشد أخر صفحة تسحب الأخرى حتى يتلقف بيديه كتابًا تلوى كتاب.
تعليقات